سورة البقرة
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدیً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
إشارات:
- «لَا رَيْبَ فِيهِ» تقرير لحقيقة واقعة وهي أنّ القرآن منزل من عند الله، فمضامينه لا تدع مجالاً للشکّ أو الارتياب فيه، وإن وقع ريب للکفار فهو لسوء ظنّهم وروح اللجاج التي تسکنهم، ومن ذلک قوله تعالی: «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ»١.
- لقد جاء القرآن لهداية الناس، ولئن تطرّق إلی مسائل خلق السماوات والأرض والنباتات والحيوانات...إلخ فما ذلک إلّا لأنّ لفت أنظار الناس لهذه المظاهر والآيات هو مدخل للتدبّر في علم الله وقدرته وحکمته.٢
- إذن، القرآن هو وسيلة هداية لعموم الناس؛ «هُدیً لِلنَّاسِ»٣ کالشمس تشرق علی کل ما فوق الأرض، ولکن وحده من سلمت فطرته الذي يستفيد من أنوار القرآن ويسلّم للحقّ أمره.
وهذا القرآن «هُدیً لِلْمُتَّقِينَ» تنفذ أنواره إلی قلوبهم لأنّها شفافة کالزجاج، فيُحرم من هذه الأنوار الفاسقون والظالمون والکافرون والذين قست قلوبهم والمسرفون والمکذّبون وذلک لأنّهم قلوبهم صدئة شابتها الأدران، فلا تسمح بأشعة الشمس أن تنفذ إليها.٤٥٦٧٨
ربّما أثير هنا سؤال وهو:
تتحدّث هذه الآية عن القرآن وما يحتويه بقولها «لَا رَيْبَ»، بينما القرآن نفسه يطرح شکوک المنکرين للدعوة، فتارةً يقول: «وإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ»٩، وتارةً أخری وفي موضع آخر يقول: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْري»١٠، وأخریيصرّح: «لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُو مِنْهَا فِي شَكٍّ»١١، إذن، فکيف يقول «لَا رَيْبَ فِيهِ» ويعجب من قول المنکرين المشکّکين في محتوی القرآن وآياته؟
في الجواب علی ذلک نقول: ليس المقصود بعبارة «لَا رَيْبَ فِيهِ» أن لا أحد شکّ أو يشکّ في آيات القرآن، بل المقصود هو حقّانية القرآن علی قدر من الإتقان والإحکام بحيث لا يمکن أن ينفذ منها أيّ شکّ، وإذا ما شکّ أحد فذلک يعود إلی عماء قلبه وبصيرته. کما تصرّح بذلک الآية ٦٦ من سورة النمل: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ»١٢.
التعاليم:
١- لا يجاری القرآن في عظمته ومنزلته الرفيعة.
«ذٰلِكَ» في اللغة اسم إشارة للبعيد، فکيف يُفهم ذلک والحال أنّ القرآن الکريم في متناول أيدينا ما يقتضي أن يشار إليه بالقريب. السبب في ذلک يعود إلی بيان عظمة القرآن التي تسنّمت الذری فلا مجال للوصول إليها.
٢- ينبغي للهادي أن يتّسم نهجه في الدعوة ومضمونها بالحزم والثبات. وعبارة «لَا رَيْبَ فِيهِ» ترمز إلی الاتقان والاستحکام الذي يميّز القرآن.
٣- قدرة القرآن علی هداية المتّقين خير دليل علی إتقانه وحقّانيّته، «هُدیً لِلْمُتَّقِينَ».
٤ـ المتّقون وحدهم الذين لهم حظّ من هداية القرآن، «هُدیً لِلْمُتَّقِينَ».
من جلا الصدأ عن قلبه، کان حظّه من الاستفادة والنور أکبر.١٣
-----------------------------
١- سورة التوبة: الآية ٤٥.
٢- يضمّ القرآن الکريم إشارات إلی بعض الموضوعات في الطبيعة والکون والتاريخ والفلسفة والسياسة والصناعة، ولکن تبقی الهداية هي الغاية الرئيسية وراء نزوله.
٣- سورة البقرة: الآية ١٨٥.
٤- "لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، سورة التوبة: الآية ٨٠.
٥- "لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"، سورة المائدة: الآية ٥١.
٦- "لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ"، سورة المائدة: الآية ٦٧.
٧- "لاَ يَهْدِي مَنْ هُوكَاذِبٌ كَفَّارٌ"، سورة الزمر: الآية ٣.
٨- "لاَ يَهْدِي مَنْ هُومُسْرِفٌ كَذَّابٌ"، سورة غافر: الآية ٢٨.
٩- سورة هود: الآية ٦٢.
١٠- سورة ص: الآية ٨.
١١- سورة سبأ: الآية ٢١.
١٢- نخبة التفاسير، نقلاً عن الشيخ آية الله جوادي آملي.
١٣- للهداية مراحل، تضيق خلالها وتتّسع، "والَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدیً".
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
:إشارات
يقسّم القرآن الکريم الوجود إلی عالمين: عالم الغيب، وعالم الشهادة، والمتّقون يؤمنون بالوجود بعالميه، بينما لا يؤمن الآخرون إلّا بکلّ ما هو محسوس، لدرجة أنّهم يصرّون علی رؤية الله عياناً، وهو ما يجعلهم ينکرون وجود الله لاستحالة رؤيته، کما قال بنو إسرائيل لموسی عليه السلام: ١«لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّی نَری اللهَ جَهْرَةً»٢، وهم أنفسهم الذين يقولون عن يوم القيامة: «وقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ ونَحْيَا ومَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ»٣
هؤلاء لم يخرجوا عن دائرة تفکير الحيوانات، فهم يحصرون طريق المعرفة بالمحسوسات، ويريدون أن يدرکوا کلّ شيء بحواسهم
- أمّا المتّقون فهم المؤمنون بعالم الغيب، العالم الذي يعلو علی العلم ويتجاوزه. هؤلاء يختزنون في أعماقهم مفاهيم الإيمان والحب والاهتمام والتبجيل والتقديس والارتباط، وهي مفاهيم لا يحتويها العلم
:التعاليم
١- لا ينفصل الإيمان عن العمل، فإلی جانب الإيمان بالغيب، علی المؤمن العمل بالمسؤوليات والتکاليف، فالمؤمنون - يُؤمِنونَ... يُقيمُونَ... يُنفِقُونَ
٢- المبدأ الرئيسي في الرؤية الکونية الإلهية هي أنّها لا تختزل الوجود في المحسوسات، {يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ}
٣- أفضل الأعمال، بعد مبدأ الإيمان، إقامة الصلاة والإنفاق، {يُؤمِنونَ... يُقيمُونَ... يُنفِقُونَ}
(في المجتمع الإلهي المثالي السائر نحو الله، تُعالج الاضطرابات والانحرافات النفسية والروحية بالصلاة، ويتمّ رفع المشاکل المعنوية بها، کما يتمّ ردم الهوّة الاقتصادية وما ينجم عنها من معضلات عبر الإنفاق).
٤ـ يجب إقامة الصلاة إقامة دائمة، لا مؤقتة ولا مرحلية، «ويُقِيمُونَ الصَّلَوةَ» (يقيم: فعل مضارع يفيد الاستمرار والديمومة)
٥ ـ کما ينبغي لنا الاعتدال في الإنفاق، ٤{ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}
٦ـ وأن يشمل الإنفاق علی الآخرين کلّ ما وهبنا الله (فالعلم رزق، والجاه رزق، والثروة والفنّ...إلخ). «ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ»٥، وقد ورد في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية «ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ»: "إنّ معناه وممّا علّمناهم يبثّون، وممّا علّمناهم من القرآن يتلون".٦
٧ـ الإنفاق يکون من خالص المال الحلال، فالله تعالی قدّر الرزق الحلال لکلّ مخلوق،٧ رَزَقْنَاهُمْ
٨ ـ لو آمنّا بأنّ کلّ ما لدينا هو من عند الله، سوف لن نغترّ بالإنفاق، وسننفق جزءاً منه علی أفضل وجه، رَزَقْنَاهُمْ
------------------------------------
١- أطلقت کلمة الغيب للتعبير عن الله تعالی والملائکة والمعاد والإمام المهدي عليه السلام
٢- سورة البقرة: الآية ٥٥
٣- سورة الجاثية: الآية ٢٤
٤-"ممّا"، أصلها (من ما)، ومن معاني "من" التبعيض، أي، ينفقون بعض الذي رزقناهم - لا کلّه-
٥- في مثل هذه الحالات، يکون معنی "ما" أيّ شيء
٦- بحار الأنوار، ج ٢، ص ١٧
٧ -"الرزق" هو العطاء الجاري لإقامة الأود بمقدار الحاجة، وشرطا الجريان والحاجة في الرزق يميّزه عن مفاهيم من قبيل الإحسان، الإعطاء، النصيب، الإنعام، الحظّ. التحقيق في کلمات القرآن، ج ٤، ص ١١٤
سورة آل عمران
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)
إشارات:
"القَيّوم" تقال للقائم بذاته والمقيم لغيره، أو أنّ کلّ شيء متقوّم به.
- إنّ الله له التدبير والسلطة في خلق الأشياء. فالعوامل والأسباب المادّية وسائل للظهور لکنّها غير مستقلّة، وأنّ سبب وجودها ليس ذاتياً.
والخلائق لا تملک من ذواتها العلم والحياة والقدرة المستقلة، هو وحده الحيّ الذي حياة کلّ کائن حيّ موصولة به.
في دعاء الجوشن الکبير نقرأ: "يا حيّاً قبل کلّ حيّ، يا حيّاً بعد کلّ حيّ".
ليس له شريک من الأحياء، وليس به حاجة إلی أحد، حياة کلّ حيّ ورزقه بيده، هو الحيّ الذي لم يرث حياته من أحد.
التعاليم:
١ـ التوحيد عنوان کلّ الکتب السماوية. «لاَ إِلَهَ إِلَّا هُو»
٢ـ شرط المعبود أن يحوي الکمالات الذاتية، والله وحده القائم بذاته، وهو الغني المطلق، «الْحَيٌّ الْقَيُّومُ».
سورة النساء
سورة النساء
السورة: الرابعة
عدد الآيات: ١٧٦
ملامح سورة النساء:
عدد آيات هذه السورة المبارکة ١٧٦ آية، وهي مدنيّة، ومضامين الآيات تشمل: الدعوة إلی الإيمان والعدالة، ذکر الأمم السالفة والاعتبار بأحوالها ومصائرها، قطع العلاقات الوديّة بأعداء الله، رعاية الأيتام وإکرامهم، شرح القوانين المتعلّقة بالزواج والإرث والتوارث، ووجوب طاعة الأوامر والأحکام الإلهية، أهميّة الهجرة والجهاد في سبيل الله ...إلخ.
سمّيت بسورة النساء لاحتوائها (من البداية حتی الآية ٣٥) أبحاثاً کثيرة في أحکام المرأة والأسرة.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)
إشارات:
- يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "صلوا أرحامکم ولو بالتسليم، يقول الله تبارک وتعالی: «واتَّقُوا اللهَ ... والأَرْحَامَ..»".١
التعاليم:
١- تستفتح سورة النساء خطابها بدعوة الناس إلی التزام التقوی، وکأنّها تريد التأکيد علی أنّ بنيان الأسرة يقوم علی التقوی، وعلی الجميع تقع مسؤولية التزام التقوی، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا».
٢- الله تعالی خلق الإنسان وتکفّل بتربيته، وعلی الإنسان أن يخشی ربّه وحده ويطيعه، «اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ».
٣- بنو البشر من جنس واحد فلا تمييز بينهم علی أساس العرق أو اللغة أو البلاد أو ...إلخ، «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ».
٤- تجمع المرأة والرجل وحدة الخلقة، فلا فضل لجنس أحدهما علی الآخر، «خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا».
٥- کلّ البشر عبر التاريخ يرجعون إلی أبٍ واحد وأمٍّ واحدة، «وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً».
روايات زواج ولد آدم علی نوعين، يقول النوع الذي يتّفق مع کلام القرآن الکريم: بأنّ أبناء آدم تزوّجوا من بعضهم البعض.٢
٦- الإعادة والتکرار أحد الأصول التربوية، «اتَّقُوا رَبَّكُمُ ... واتَّقُوا اللهَ».
٧- من لوازم التقوی حماية حقوق الأسرة وذوي القربی، «واتَّقُوا اللهَ... والأَرْحَامَ»، يقول الإمام الباقر عليه السلام: "قال رحم رسول الله صلّیالله عليه وآله وسلّم أولی بالإمارة والملک والإيمان".٣
------------------------------
١ الکافي، ج٢، ص ١٥٠.
٢ تفسير الميزان.
٣ بحار الأنوار، ج ٢٣، ص ٢٥٧.
سورة المائدة
سورة المائدة
السورة: ٥
عدد آياتها: ١٢٠
ملامح سورة المائدة
تحتوي هذه السورة علی مائة وعشرين آية، وقيل إنّها نزلت قبل رحلة النبي الأکرم صلّی الله عليه وآله وسلّم بشهور، وليس فيها منسوخ من الآيات. سبب تسميتها بالمائدة هو دعاء النبي عيسی عليه السلام في الآية ١١ بأن ينزّل الله تعالی مائدة من السماء. کما لها أسماء أخری مثل "العهود" و"المواثيق"، وهي بشکل عام، تتناول موضوع الوفاء بالعهود، کما تزخر السورة بخطاب "يا أيّها الذين آمنوا"، فعلی سبيل المثال، ورد هذا الخطاب إحدی عشرة مرّة في سورة البقرة، بينما ورد ستّ عشرة مرّة في هذه السورة.
ومن جملة الموضوعات والمفاهيم التي تتطرّق إليها السورة، علاوة علی الوفاء بالعهود والمواثيق، موضوع الشهادة بالعدل، تحريم القتل، أحکام الأطعمة، أحکام الوضوء، الغسل والتيمّم، الحثّ علی العدالة الاجتماعية، استعراض أحکام الوصيّة والقصاص، والسرقة والزنا.
ربّما يکون استهلال السورة بعبارة "أوفوا بالعقود" لأنّها من خواتيم الوحي الإلهي الذي نزل علی الرسول الأکرم صلّی الله عليه وآله وسلّم، فجاءت بمثابة وداع المسافر أهلَه ووصيته لهم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلی عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)
إشارات:
- "البهيمة" اسم لکلّ ذي أربع بما في ذلک "الأنعام" التي تعني الإبل والبقر والأغنام، وقد ذکرت "بهيمة الأنعام" في ثلاثة مواضع من القرآن الکريم، والمراد بها حليّة لحوم الأنعام.١
- سُئل الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق عليه السلام عن قوله عزّ وجلّ «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ»، فقال: "الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذکاته ذکاة أمّه، فذلک الذي عنی الله عزّ وجلّ". وقال المرحوم الفيض الکاشاني في تفسيره (الصافي): "قد تکون هذه الرواية بياناً لمصداقها الخفيّ، أو أنّها تسمّی «بهيمة" منذ أن تولد من رحم أمّها، لذلک لا تعارض في تعميمها».٢٣
- عن النبي الکريم صلّی الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: "لادين لمن لاعهد له". نعم، إنّ الوفاء بالعهود هو عماد المجتمع وأساس ثباته، وفي نقضها ذهاب لنظامه، وابتلاؤه بالفوضی.٤
هذا، وقد أوجب القرآن الکريم الوفاء بالعهد لجميع البشر بمن فيهم المشرکين. «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَی مُدَّتِهِمْ»٥.
- وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "ثلاث لم يجعل الله، عزّ وجلّ، فيهنّ رخصة، أداء الأمانة إلی البرّ والفاجر والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدين برّين کانا أو فاجرين".٦
وطبقاً لرواية أخری: "إذا أومی أحد من المسلمين أو أشار إلی أحد من المشرکين، فنزل علی ذلک فهو في أمان".
- الکتب السماوية العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) والعهد الأخير (القرآن الکريم) هي عهود الله ومواثيقه ويجب الوفاء بها. نقرأ في الحديث الشريف: "القرآن عهد الله".٧
التعاليم:
١- لا بدّ للمسلم أن يلتزم بجميع المواثيق والعهود التي يبرمها مع أيّ فرد أو جهة کانت، مهما کان نوع الميثاق، سواء أکان ميثاقاً لفظياً أو مکتوباً، أو مواثيق سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عائلية، أو کان ميثاقاً مع القوي أو الضعيف، أو مع الصديق أو العدو، أو مع الله کما هو الحال مع النذر مثلاً أو العهود التي تقدّم إلی الناس أو الفرد أو المجتمع، صغيراً کان أو کبيراً، أو المواثيق مع دول المنطقة أو أيّة معاهدة دولية، باختصار أقول، إنّ "العقود" هنا معرّفة بالألف واللام وهي تشمل جميع أنواع العقود والمواثيق.
٢- إشعارٌ بأنّ الإيمان هو الضمانة للوفاء بالعهد والميثاق، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».
٣- أما وأنّ الله سبحانه وتعالی قد وهبنا کلّ هذه النعم، فلا بدّ لنا من الوفاء بعهوده، «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ».
٤- أحد العهود مع الله تعالی هو الالتزام بأحکام الأطعمة حلالها وحرامها، «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ».
٥- يهتمّ الدين الإسلامي بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية علی حدٍّ سواء، والوفاء بالعهد يمثّل قضية اجتماعية واقتصادية، والاستفادة من الحيوانات هي من القضايا الاقتصادية: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ».
٦- يحرم أکل الميتة والمنخنقة من البقر والإبل والأغنام، «إِلَّا مَا يُتْلَی عَلَيْكُمْ».
٧- ليس کلّ البهائم لحومها حلال، «إِلَّا مَا يُتْلَی عَلَيْكُم» (الآية الکريمة تتعلّق بأنواع معيّنة من البهائم).
٨- من أجل المحافظة علی حرمة الإحرام، يجب أن نوطّن النفس قليلاً علی الحرمان والامتناع عن الصيد، «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ».
٩- الالتزام بمحرّمات الإحرام، هي من أمثلة الوفاء بعهد الله وميثاقه، «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ».
١٠- الإحرام هو ميثاق المحرم مع الله، «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... وأَنْتُمْ حُرُمٌ».
١١- الإحرام هو حالة استثنائية وله حرمته، «وأَنْتُمْ حُرُمٌ».
--------------------------
١ تفسير مجمع البيان.
٢ الکافي، ج ٦، ص ٢٣٤.
٣ قاموس القرآن.
٤ بحار الأنوار، ج ١٦، ص ١٤٤.
٥ سورة التوبة، الآية ٤.
٦ الکافي، ج ٢، ص ١٦٢.
٧ المصدر نفسه، ج ٦، ص ١٩٨.
سورة الأنعام
سورة الأنعام
السورة: ٦
عدد آياتها: ١٦٥
ملامح سورة الأنعام
عدد آياتها ١٦٥ آية، جميعها مکيّة، وقد نزلت جملة واحدة ووفقاً لترتيبات خاصة، حيث شيّع نزولها سبعون ألف ملک حتی نزلت علی النبي الکريم صلّی الله عليه وآله وسلّم.
الهدف الرئيسي للسورة الکريمة:
هو التوکيد علی محاربة الشرک والدعوة إلی التوحيد. ولمّا کان المشرکون في شبه الجزيرة العربية يرزحون تحت نير الخرافات حيث کانوا يحلّون بعض الأنعام ويحرّمون البعض الآخر، فقد انبری القرآن الکريم لمحاربة تلک الخرافات والمعتقدات الباطلة، حيث أنزل بدءاً من الآية ١٣٦ أحکاماً تخصّ الأنعام فسمّيت السورة بهذا الاسم.
نقلت روايات عديدة في فضل تلاوة هذه السورة وقضاؤها للحاجات، من جملتها ما نقل عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "من كانت له إلی الله حاجة يريد قضاءها فليصلِّ أربع ركعات بفاتحة الكتاب والأنعام وليقل في صلاته إذا فرغ من القراءة: يا كريم يا كريم يا كريم، يا عظيم يا عظيم يا عظيم، يا أعظم من كل عظيم يا سميع الدعاء يا من لا تغيره الليالي والأيام، صل علی محمد وآل محمد وارحم ضعفي وفقري وفاقتي ومسكنتي، يا من رحم الشيخ يعقوب حين رد عليه يوسف قرة عينه، يا من رحم أيوب بعد طول بلائه، يا من رحم محمداً ومن اليتم آواه ونصره علی جبابرة قريش وطواغيتها وأمكنه منهم، يا مغيث يا مغيث يا مغيث، تقول ذلك مراراً فوالذي نفسي بيده لو دعوت الله بها ثم سألت الله جميع حوائجك لأعطاك".١
وتمتاز هذه السورة بکثرة خطاب النبي الکريم صلّی الله عليه وآله وسلّم بکلمة "قل" مقارنة بالسور القرآنية الأخری، حيث وردت ٤٤ مرّة، ولعلّ مردّ ذلک هو أنّ سورة الأنعام تکثر من طرح عقائد المشرکين الباطلة وانحرافاتهم وأحلامهم المريضة، لذلک تطلّب إبداء الحزم والشدّة تجاههم، ويشير هذا إلی أنّ النبي الکريم صلّی الله عليه وآله وسلّم مأمور بإبلاغ الرسالة السماوية کما هي دونما زيادة أو نقصان.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)
إشارات:
- يلاحظ المرء أنّه في جميع آيات القرآن الکريم وردت لفظة "نور" في صيغة المفرد، بينما "الظلمات" في صيغة الجمع، والحقيقة، أنّ الحقّ هو واحد لا يتجزأ، بينما الطرق المؤدية إلی الباطل متعدّدة. نعم، إنّ النور هو رمز الوحدة، بينما الظلمات رمز التفرّق والتشتّت. "يعدلون" من "عدل"، علی وزن "حفظ" وتعني التساوي، وهي هنا بمعنی (العديل) أي الشريک أو الشبيه أو المثيل.
- تتناول الآية الأولی من هذه السورة "خلق نظام الکون"، والآية الثانية "خلق الإنسان"، والآية الثالثة مراقبة "أعمال الإنسان وسلوکه".
- يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "وکان في هذه الآية ردّ علی ثلاثة أصناف منهم ]المنحرفون[: لمّا قال «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ» فکان ردّاً علی الدهرية الذين قالوا: إنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة، ثمّ قال: «وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ»٢، فکان ردّاً علی الثنوية الذين قالوا: إنّ النور والظلمة هما المدبّران. ثمّ قال: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ».
- عن أبي إبراهيم الإمام موسی بن جعفر عليهما السلام أنّه قال في قوله عزّ وجلّ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ»: «الکفّار يعدلون بين الظلمات والنور وبين الجور والعدل".٤
التعاليم:
١- لقد خلق الله تعالی من العدم (أي أصل وجود الشيء)، کما قام بالجعل وهو يکون في الخصائص والآثار والکيفيات التي هي نتيجة لخلق تلک المخلوقات، أي الخلق الابتدائي "الخلق" والخلق التبعي "الجعل").
٢- الإشراک بالله هو، علی نحوٍ، إنکار لله وکفر به، «الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ».
----------------------------
١ تفسير أطيب البيان.
٢ جاء في کتاب "الأفستا" الحالي وهو الکتاب المقدّس عند الزرادشتيين أنّ أهريمن هو إله الظلمات وأهورا مزدا إله النور، ويوجد بينهما صراع؛ (تفسير الکاشف).
٣ تفسير نور الثقلين.
٤ تفسير العياشي؛ بحار الأنوار، ج ٩، ص ٣٥٥.
سورة الأعراف
سورة الأعراف
السورة: ٧
عدد الآيات: ٢٠٦
ملامح سورة الأعراف
هذه السورة من السور المکية، آياتها ستّ ومائتان، سمّيت بهذا الاسم لسردها قصّة أصحاب الأعراف في الآيات ٤٦-٤٨.
هي ثالث سور القرآن الکريم، وتستفتح بالحروف المقطّعة، وأوّل سور السجود في القرآن، وقد اختتمت بآية تتضمّن سجدة مندوبة.
من مجموع عدد سور القرآن الکريم التي تبلغ ١١٦ سورة، نزلت ٨٦ سورة في مکة، والسور المکية – في الغالب- تتناول موضوعات أصول العقائد ومحاربة الشرک والعناية بمنزلة الإنسان ودعم موقعه في عالم الخلق...إلخ.
بدورها، تتناول هذه السورة قصة النبي آدم عليه السلام مع إبليس، وقصص الأنبياء نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسی عليهم السلام، کما تبيّن أصول ومبادئ دعوة النبي الأکرم صلّی الله عليه وآله وسلّم، وتشرح مشاهد يوم القيامة والتوبة وإصلاح النفس، کما تتطرّق لموضوع العرش والميزان وعالم الذرّ وميثاق الله تعالی مع الإنسان، وتتحدّث کذلک عن عظمة القرآن الکريم ثمّ تشير إلی أصحاب الأعراف.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْری لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
إشارات:
- يبلغ عدد سور القرآن الکريم التي تستفتح بالحروف المقطعة ٢٩ سورة، منها ما يستهلّ بـ"ألم" وأخری بالحرف "ص" ... وهکذا، أمّا هذه السورة فهي تبدأ بالحروف "ألمص" وربّما کان ذلک تعبيراً عن أنّ هذه السورة تتوافر علی ما هو موجود في السور الأخری مجتمعة.١
التعاليم:
١- القرآن کتاب عظيم، (لاحظ أنّ کلمة «كِتَابٌ» جاءت في صيغة التنکير).
٢- العناية بالقرآن الکريم وسبر مفاهيمه السامية تجلب للإنسان سعة الصدر وتجلي عنه الحرج والضيق، «كِتَابٌ ... فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ».
٣- الرسالة والدعوة رهنٌ برحابة الصدر وانشراحه، «أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ».
٤- لا تبتئس من لجاج الکفّار وعنادهم، فمسؤوليتک هي إنذارهم لا إکراههم، «لِتُنْذِرَ».
کان النبي الأکرم صلّی الله عليه وآله وسلّم يشعر بالضيق والحزن تجاه قومه لئلا يؤمنوا بالدعوة ويکذّبوا بالقرآن، فأنزل الله تعالی هذه الآية ليسلّي بها رسوله الأمين ويشدّ من أزره.
٥- نُذُر الأنبياء موجّهة إلی کلّ الناس، ولکن وحدهم المؤمنون الذين يستوعبون الدرس فيرعوون، «لِتُنْذِرَ بِهِ وذِكْری لِلْمُؤْمِنِينَ».
-------------------
١ الميزان في تفسير القرآن.